vendredi 6 août 2010

المجتمع التونسي والتحوّلات الثقافية الجديدة







عاشت البشرية في مسار تطورها الطبيعي منذ نشأة الانسان تحولات جوهرية لم تكف ديناميكية التاريخ عن انتاجها ولن تتوقف عن احداث الجديد منها، لذلك فان ما شهدته البشرية من تغيرات عميقة منذ نهاية الثمانينات يندرج حتما في هذا السياق رغم ما صاحبه من تغيير في انماط العمل ووسائل الانتاج وحلول عصر التكنلوجيا والذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية ومجتمع المعلومات في ظرف زماني وجيز وبزخم هائل.
وقد تأسست كل مراحل تطور البشرية على مرجعية اقتصادية وسياسية شكلت سببا مباشرا او غير مباشر لتحولات ثقافية كانت نتيجة لها فافرزت بدورها تحولات في السلوك الاجتماعي والذهنية العامة.
اما اليوم فان العالم يشهد تحولات ثقافية جديدة مغايرة مصدرها المباشر هو الثقافة ونتيجتها المباشرة سياسية واقتصادية واجتماعية مبرمجة.
وتكمن الجدة في ان التحولات الثقافية التي كانت نتيجة لسبب اقتصادي سياسي اصبحت اليوم سببا لنتيجة اقتصادية وسياسية واجتماعية.
فالتحولات الجديدة تتأسس على رؤى وتصورات ثقافية غايتها البناء لثقافة جديدة معولمة ذات ابعاد سياسية واقتصادية واجتماعية كونية جعلت من هذه التحولات مصدر مفاجأة لكل المجتمعات، وكانت المفاجأة ذاتها فعلا ثقافيا اربك الجميع بما في ذلك المجتمعات المتقدمة فكريا وماديا وعلميا.
احدثت التحولات الثقافية الجديدة ارتجاجا في كل المجتمعات التي تفتقر الى مقومات المواكبة والصمود حيث طالت رياح التغيير المتسارع بنية العقل والتركيبة الاجتماعية للدول والشعوب فغيرت مفهوم الدولة والمجتمع والسلطة والسيادة والوطن. عصفت بقيم الشعوب وتقاليدها وانماط استهلاكها وطبيعة العلاقات بين افرادها ومكوناتها وهي بصدد اعادة صياغة تصور جديد للارث الثقافي الانساني ولمقومات الحضارة البشرية.
ولم يبق في منأى عن الهزات التي شهدتها كل انحاء المعمورة الا النزر القليل من دول العالم :
ـ إما لقوة اقتصادية وعسكرية قادرة على درء مخاطر التحولات الثقافية الجديدة لان هذه القوة توازيها وتدعمها وتغذيها قوة ومناعة ثقافية وحضارية.
ـ وإما لان مكونات الثقافة لدى هذه القوى الاقتصادية والعسكرية صناعة تنزلت تاريخيا في النسق الاقتصادي وانصهرت فيه ولم تعد تدرج في سلم القيم الثقافية وشروط الابداع المألوفة لدى الشعوب والحضارات الاخرى وبالتالي فهي غير قابلة للتأثر بالتحولات الثقافية الجديدة لانها من صنعها.
اما المجتمع التونسي فانه يتميز مع شعوب ودول اخرى قليلة في العالم بخصوصيات تشكل مصدرا لمناعة ذاتية تجعله لا ينتمي الى الصنفين من الدول السابقتي الذكر وتمكنه مع ذلك من القدرة على مواجهة التحولات الثقافية الجديدة بالتكيف والاستيعاب والتفاعل التلقائي.
وتدعيما لخصوصية المجتمع التونسي فيما يشكل مصدر قدرة لديه على التفاعل مع التحولات الثقافية الجديدة وضع سيادة الرئيس زين العابدين بن علي اسس مستقبل الثقافة في تونس وفق استراتيجيا ثلاثية التصور:
ـ صياغة مشروع مجتمعي يكتمل فيه السياسي مع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وفق شروط التحول الجديد القائم على التداخل والتفاعل.
ـ صون الارث الثقافي والحضاري للمجتمع والوفاء لأعلام الثقافة ورواد الاصلاح في بلادنا.
ـ مواصلة السير في المنهج الحداثي الذي يشكل مقوما رئيسيا للشخصية التونسية وعاملا مساعدا على صون الهوية الوطنية المنفتحة على الكونية.
وفي ذات الوقت عمل سيادة الرئيس منذ تغيير السابع من نوفمبر 1987 على تامين الشروط المؤسسة لحداثة تحمل في ذاتها مقومات استمرارها بالانصهار في الفضاء الاتصالي المعولم وبناء جسور التواصل الانساني عبر حوار الحضارات والاديان والثقافات ونشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان.
ولم يكفّ سيادته عن توجيه الدعوة الى المثقفين والمبدعين واهل الفكر للاضطلاع بدورهم الطلائعي في المجتمع وانارة العقول بابداعاتهم وابحاثهم ودراساتهم وتحاليلهم والمساهمة في استشراف المستقبل والارتقاء بآدابنا وفنوننا وانتاجنا العلمي الى العالمية حتى تسجل تونس حضورها في التحولات الثقافية الجديدة بالتاثير في مجرى هذه التحولات والتفاعل مع آثارها.
ويقول سيادة الرئيس في هذا الصدد: "وقد كنا سباقين في استشراف المستقبل ورسم معالم غدنا على اسس راعينا فيها خصوصيات بلادنا وفسحنا مجال المشاركة امام الجميع وفي مقدمتهم اهل الفكر والابداع واثقين بقدرتهم على النفاذ الى عمق المستجدات واستيعاب التحولات والتغيرات ونحن نعتقد ان للمثقفين والمكفرين والاعلاميين دورا كبيرا في المساهمة في ضبط ملامح الغد وتحديد المسالك المفضية الى التقدم وتخطي المراحل الحاسمة في مسار التطور البشري".
واعتمد سيادة الرئيس في تصوره هذا مبدأ تجذير مقومات الخصوصية التونسية وتثبيت مكوناتها بالإحياء والإثراء الدائمين عبر قيم اساسية هي التفتح والتسامح والتضامن حتى تظل تونس فضاء للقاء وأرضا للتلاقح والتفاعل بين الثقافات والحضارات مثالا للتعايش بين الاديان والشعوب والحضارات تشع على العالم وتشيع قيم السلم والامن والتعاون بين الامم تنبذ العنف والتطرف والمغالاة وتدعو الى العقلانية والاعتدال.
ومنذ ان اعتبر سيادة الرئيس الثقافة سندا للتغيير ومكنها من كل شروط الاضطلاع بهذا الدور فانه جعل من المجتمع التونسي قوة دفع في اتجاه مواكبة التحولات الثقافية الجديدة في العالم والانصهار فيها بانتاج مقومات الفعل والتفاعل الخلاق.